الأسود يليق بنا.. هكذا كتب التاريخ على حياة المصريين وقرر الغناء الشعبى نسج الموال على خيوط “الليل” بكل ما يحمله من ظلام، وعاش المصريون يتنقلون من ظلم إلى آخر ومن فراعنة لاستعمار لديكتاتورية خلال قرون كسرتها عقود قليلة من الأمل، وخلال سنين رسم اللون الأسود إطاراتها أمام شعب اختار أن يعيش، وتمكن رغم كل ما كان أن يبنى أعظم حضارة عرفها الكون، فى هذا اللون ستتعرف على حياة المصريين فى قلب الظلام وكيف كانوا يخرجون منها فى كل مرة بحكمة وضحكة وأمل يسلمونه لأولادهم فى كل مرة أكبر مما كان.
أيام ارتدت لها مصر “الأسود”..
صمت يسيطر على الشوارع.. وجوه هائمة ترفض النظر لبعضها بينما تخبو خلف جفونها خيبه أمل، تتوقف الكلمات فوق الألسنة التى احتلتها مرارة مؤلمة، مرت العديد من الأيام على أهل مصر مستبدله عن المحروسة ثياب الفرحة بالثوب الأسود دون غيره.
قائمة طويلة من هذه الأيام يحتل صدارتها الموت الذى لم يتوقف تحليقه كثيرا فوق المحروسة خلال السنوات الأخيرة بعد أن ظل مناخ أم الدنيا ممهدا له بالكثير من القهر والظلم والفقر والمرض والكوارث كان أهمها قطار الصعيد فى 2002، وحريق قصر الثقافة فى 2005، وغرق عبارة السلام 2006، وشهداء الثورة منذ 2011 وحتى اليوم بما مر خلال الثلاثة أعوام من كوارث وحوادث قطارات ومذابح مثل بورسعيد وماسبيرو وشهداء الحدود وغيرهم.
الانكسارات البسيطة كانت كفيلة أيضا لترتدى لها مصر بالكامل اللون الأسود، من ينسى هزيمة مباراة الجزائر التى أقيمت فى السودان خلال تصفيات الوصول لكأس العالم، وصفر المونديال، اقتراب امتحانات الثانوية العامة وجيب أب خالى من مصروف درس يحدد مصير ابنه، وحين حطم الجهل تمثال طه حسين فى المنيا ووضع فوق وجه تمثال أم كلثوم نقاب.
كيف يحول المصريون “أيامهم السودا” لضحكة ؟..
حول تفاصيل الحزن والقهر الذى يرسم الأسود فيه الحياة، قرر المصريين منذ سنوات نصب شباك ضحكاتهم ونكاتهم، يغوصون فى تفاصيل الألم يخرجون منها بضحكه تبقى هى الذكرى لتكتب تاريخ شعب لم يتوقف عن الحزن والضحك معا.
من يتوقع أن يطلق شعبا ما النكات على نكسة مثل نكسة 67، ولكن أهل المحروسة واجهوا وجعهم الذى عاش لسنوات بتمادى فى إزاحة اللون الأسود مقابل ضحكات امتد صداها حتى مسامع الرئيس جمال عبد الناصر ليخرج فى إحدى خطابته مطالبا المصريين بالتوقف عن إلقاء النكات على الهزيمة احتراما لأرواح شهداء النكسة فى هذا الوقت.
ليست النكسة فقط، أمام كل ديكتاتور كانت تقف نكات المصريين تزلزل عرشه وتقلق نومه حتى تزيح جبروته، آخرهم بالتأكيد كان مبارك الذى خرجت نكات ميدان التحرير لتضرب دولته حتى حطمتها ومن بعده تغير الأسلوب المصرى الساخر.
من ينكر أن الضحك الأسبوعى على فشل الإخوان فى برنامج باسم يوسف كان أحد أسباب سقوط مرسى، وحتى الآن مازال البرنامج ينتقد كل ضعف فى أداء الحكومة والحكام، ولكن مع ربط “الضحك بالأيام السودا” فلن تجد خيرا من الفيديو الذى عرضه باسم يوسف لتسجيل مع شخص يتم سؤاله عن رأيه فى وضع مصر ويكون رده “أيام سودا” لتصبح الآن هذه العبارة ووجه هذا الشخص هما “أيقونة” جديدة للضحك المصرى على الشبكات الاجتماعية.
اللون الأسود فى علم مصر يحاول محو “العهد البائد.. وأعداء الثورة.. والاستعمار” منذ عام 52.
6 أشهر فقط مرت على ثورة 52 كانت كافية لإعادة ضبط العلم المصرى، وكافية ليحجز المصريين للون الأسود مكانا واضح فى نهاية العلم ليخط نفسه كجزء يعبر وقتها عن ثلاثة أشياء كان من المفترض أنها ستنطوى مع ورقة الزمن، كان يأمل الضباط الأحرار وهم يرمزون للون الأسود بـ “العهد البائد.. وأعداء الثورة.. والاستعمار” فى علم مصرى جديد وقتها، ولم يتغير كثيرا حتى الآن.
مصطلحات “العهد البائد.. وأعداء الثورة.. والاستعمار” ستجدها أصبحت أكثر بروزا فى تفسير اللون الأسود فى العلم المصرى بعد 25 يناير، هى مازالت تملأ مسامع الجميع منذ بدأ المصريين جولة جديدة يحاولون بها إلزام اللون الأسود إلى كتب التاريخ والبحث عن غد جديد تمحوا منه ذكريات العهد البائد سواء كان يشير لمبارك أو للعهد الملكى، وأعداء الثورة الذين ازدادت أعدادهم ونفوذهم بينما يملئون أرجاء البلاد بفسادهم، والاستعمار الذى تحول من جنود محتشدون فوق أرض الوطن إلى سيطرة على مقاليد البلاد بأشكال مختلفة.
الطاولة التى جلس إليها الضباط الأحرار قبل سنوات لتقرر ثلاثة ألوان ترسم علم مصر بالتأكيد لم تكن حالمة بقدر أن تتخيل إيداع اللون الأسود سجون الماضى إلى الأبد ورسم حياة جديدة يحتلها اللون الأبيض الذى اعتلاه، ولكنها بالتأكيد أيضا لم تكن تتوقع أنه فى عام 2014 سيتضخم اللون الأسود إلى ما وصلنا إلية ليرسم الإطار الأكبر لحياة أهل المحروسة.
الطرف الثالث.. والسلعوة.. ولعنة الفراعنة.. وحجرة الفئران.. أبطال عالم الظلام المصرى
ظلال اللون الأسود على أرض أم الدنيا لم تقف فقط أمام حدود الحزن والألم والظلم، بل امتدت لتغطى بعض الأشياء وتضع من فوقها علامات الغموض لسنوات طويلة، أشياء وعبارات نسمعها فقط بينما تختفى هى فى عتمة السواد دون أن نراها ليطلق عليها البعض لقب “أساطير” ويؤكد آخرين أنها حقيقة تحوم حولنا يوميا دون أن نراها.
فى السنوات الأخيرة شهدت قمة هذه الأشياء لفظ “الطرف الثالث” وهو فى الثقافة الشعبية العدو المرعب الذى يتحكم فى كل الأمور منذ الثورة، يقتل المتظاهرين وفى نفس الوقت تصيب رصاصته الجنود، ينشر الفوضى هنا وهناك دون أن يتمكن أحد من التعرف عليه حتى الآن.
“السلعوة” هى إحدى أبطال عالم الظلام المصرى أيضا، بعد أن عاشت سنوات حبيسة أساطير الفراعنة ترددت الأنباء والأخبار عن ظهورها الحقيقى للمرة الأولى عام 1996 وتكررت هذه الأخبار حتى عام 2008 دون أن يتمكن أحد حتى الآن من شرح ما هى “السلعوة”، لم نرها تسير بجانبنا فى الشوارع ولم نتأكد أنها خيال، لن تجد مصدرا مؤكدا يعرفك عليها أو آخر ينفى وجودها، هى فقط حبيسة عالم الظلام التى نتحدث عنها ويعرفها كل منا فى عقلة بالطريقة التى تناسبه.
عالم الظلام المصرى يمتد أيضا ليشمل “لعنة الفراعنة”، وهنا بالتحديد امتد هذا العالم ليشغل العالم كله ولكن وفقا لقواعده، وعقب فتح مقبرة توت عنخ آمون لفت انتباه فريق الاستكشاف نقوش تقول “سيذبح الموت بجناحيه كل من يحاول أن يبدد أمن وسلام مرقد الفراعنة”، وبالفعل انتشر الموت فوق رؤوس مكتشفين المقبرة لتنتشر الأخبار فى العالم وتبدأ التحليلات التى لم تقدم حتى الآن تفسير شاف كاف لهذه اللعنة ولا إجابة للسؤال الأعظم “لو كان الفراعنة بيدهم لعنة من يفتح مقاربهم ويفسدها ألم يكن من الأولى نشر رحمة منهم على من يحافظ على هذه المقابر لتصاحب أحفادهم المخلصين؟”.
عالم الظلام يبدأ مع المصريين منذ طفولتهم، وشعاره الأكبر فى هذه المرحلة هى “حجرة الفئران” التى عاش فيها كل أطفال مصر على الرغم من أنها لم توجد يوما.
البلاك بلوك من ظاهرة عالمية إلى جريمة مصرية..
كان لفظ “البلاك بلوك”أو”الكتلة السوداء” جديدًا على مسامع المصريين عندما بدأت وسائل الأعلام المصرية تداوله للإعلان عن وجودهم فى الميدان والشوارع توافقا مع الذكرى الثانية لثورة 25 يناير.
المعروف أن “البلاك البلوك” ظاهرة عالمية ظهرت فى أوروبا عام 1980 وكانت عبارة عن مجموعة من الشباب ترتدى الأقنعة والنظارات السوداء وتسير فى مجموعات منظمة رافعين شعاراتهم لرفض الرأسمالية والفاشية والتمييز العنصرى ويدعون للسلام فى العالم كله دون التقيد بحدود، وحاولت الشرطة كثيرا الاستعانة بهم إلا أنهم رفضوا لإيمانهم باللامركزية وتقنين السلطة.
وعلى العكس فى مصر خلال أيام من ظهور جماعة “البلاك بلوك” فى الشارع المصرى أصبحوا مطاردين من الشرطة ومطلوبين للمثول أمام النائب العام فقد كثرت جرائم الخطف والسرقة بالإكراه بسبب ارتداء الخارجين عن القانون الأقنعة السوداء للتستر عن جرائمهم، وكانت من أشهر الحوادث اقتحام فندق سميرا ميس وسرقة وتحطيم محتوياته من قبل مجموعة ارتدت أقنعة “البلاك بلوك” ووقتها خرج المتحدث باسم “البلاك بلوك” لينفى أن يكون لهم أى علاقة بالحادثة.
إلا أن وجود جماعة “البلاك البلوك” فى الشارع سودت أيام المصريين بسبب إعلانهم العصيان المدنى وقطع الطرق الرئيسة مما أدى إلى تعطيل مصالح الجمهور، هذا بالإضافة إلى نشر الذعر والخوف فى الشارع بسبب الجرائم التى ترتكب بكل سهولة عند ارتداء القناع الأسود.
ومن الشارع إلى صفحات “الفيس بوك” ازداد نشاط “البلاك بلوك” لتعلن وزارة الداخلية مع مطلع الشهر الجارى القبض على أدمن صفحة “بلاك بلوك ربعاوى” التى حرضت على كوادر الداخلية والجيش بنشر صور وبيانات الضباط بغرض قتلهم لتصبح “البلاك بلوك” من ظاهرة سياسية عالمية إلى جريمة مصرية منذ ظهورها.
الموت علينا حق.. سبيل المصريين لتخفيف سواد الموت..
“الموت علينا حق” بهذه العبارة ينقل المصريين إلى بعضهم أخبار الوفاة لتخفيف أثر الصدمة، لكن لا يمنع هذا أثار الحزن التى تحل فى القلوب إثر الرحيل، وهناك بعض الشخصيات العامة التى فارقت عالمنا خلال السنوات الأخيرة بصمت ولكن صدى ذكراهم مازال يملأ وجداننا.
بدأ عام 2011 باستشهاد “الورد اللى فتح فى جناين مصر” خلال الثورة ورحيل الفريق سعد الدين الشاذلى، والفنان طلعت زين، والفنان كمال الشناوى والفنانة هند رستم، وفى منتصف شهر رمضان رحل المطرب حسن الأسمر، ثم الفنان عمر الحريرى.
وبكل هدوء رحل الكاتب المبدع أنيس منصور، والمحامى والناشط السياسى “طلعت السادات”، وذلك قبل أن يعلن عن أهداف حزبه الذى طالما حلم به، وفى عام 2012 رحل عن عالم الثقافة والأدب الكاتب الساخر جلال عامر، وثروت عكاشة، وإبراهيم أصلان، وفى حادث أليم رحل إبراهيم الفقى خبير التنمية البشرية بسبب احتراق منزله أثناء نومه، وفى 17 مارس ودع البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أحبابه بوعد بلقاء فى عالم أفضل، وفى هذا العام خسر الفن الكثير من أعلامة منهم المخرج إسماعيل عبد الحافظ، وأحمد رمزى، وعمار الشريعى.
أما العام 2013 فأبى أن يرحل إلا ببصمة حزينة، فعن عمر يناهز 95 عامًا رحل نيلسون مانديلا بعد صراع مرير مع المرض، ثم أعقبه الفنان اللبنانى وديع الصافى والذى يعتبر من عمالقة الطرب فى الوطن العربى.
وبعد أن ملأ الدنيا بصوته وشغبه الثورى رحل بهدوء وصمت الشاعر أحمد فؤاد نجم، وبينما الدنيا تموج فى بحر من الحروب والسلاح رحل “ميخائيل كلاشنيكوف”، الرجل الروسى الذى اخترع بندقية “الكلاشينكوف” الأكثر استخدما وشهرة على مستوى العالم.
وبعيدًا عن عالم الإخوان رحل المفكر الإسلامى “جمال البنا” والذى كان دائم الخلاف مع شقيقة الأكبر الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان الإرهابية.
أزمة الكهرباء.. ساعات سوداء فى حياة المواطن..
ساعات الصيف التى عاشها المواطن المصرى خلال السنوات الثلاث الأخيرة لا يستطيع أحد وصفها إلا بأنها ساعات “سودا” فانقطاع الكهرباء مع ارتفاع درجة الحرارة ليلا ونهارا، يشل حركة العمل فى أى مكان خاصة مع تجاوز فترة الانقطاع الحد المعقول ففى بعض المرات استمر انقطاع الكهرباء إلى 3 ساعات متواصلة.
ولذلك لم يتخيل المواطن المصرى يوما أن تعود “لمبة الجاز” ضيفا عزيزا على مقتنيات منزله بعدما تحطمت وذهبت أدراج الرياح بعد قيام ثورة 23 يوليو عندما دخلت الكهرباء جميع البيوت عند بناء السد العالى احد أهم انجازات الثورة وقتها.
مصطلحات ورموز سوداء فى حياتنا اليومية..
اللفظ الأسود دارج على لسان المصريين فى جميع المواقف التى تسبب لهم غضب أو مشكلة، فيقولون “نهار أسود” تعبيرًا عن الغضب أو الاستنكار لحدث مؤسف وعندما عندما يبدأ اليوم بحادث عارض يعكر صفو اليوم فيتوقع صاحبة كآبه باقى اليوم.
وكذلك الحال عندما نقول ليلة سودا، فمعناها أن ساعات الليل ستطول ولا مجال للنوم الهادئ.. “ماتخلينيش أحطك فى القايمة السودا”، بعد الثورة عرفنا معنى القائمة السوداء التى ضمت أسماء مؤيدى وأعضاء نظام مبارك وفلول الثورة فأصبحت دارجة كلفظ تهديد.
وسرك فى الصندوق الأسود، نقولها لكى نطمئن من أفصح لنا عن سره، أما كانت فكرة سودا.. فتشير إلى سوء النتيجة من فكرة مقترحة أو عمل قمنا به، ونفسية سودا، تدل على أن صاحب هذه الشخصية يتميز بصفات سيئة تنفر الناس من التعامل معه، والقرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود، مثل شعبى نسمعه منذ مرحلة الطفولة ليصاحبنا على مدار عمرنا يحثنا على الادخار لتفادى مشاكل الحياة المادية.
الطب النفسى.. اللون الأسود يعبر عن الوقار والخوف والهدوء والكآبة..
ومن جانبها أكدت الدكتورة تغريد محمد الشافعى، أستاذ مساعد الطب النفسى بكلية طب البنات جامعة الأزهر، أن ارتباط اللون الأسود فى حياة الناس بمشاعر الخوف والكآبة يعود إلى أساس علمى وهو أن نور الشمس يعمل على إفراز مواد السعادة فى العقل ومع اختفائه وحلول الظلام تبدأ هذه المواد فى الانخفاض تدريجيا ليرتبط الظلام بمشاعر الكآبة والخوف.
وأشارت إلى أن اللون الأسود فى ذاته يعتبر أحد الألوان الغنية والذى يبرز بوضوح الاختلاف سواء بين الألوان أو الشخصيات، ولو قمت بتجربة قياس الحالة النفسية لشخصيات متعددة مع اللون الأسود فستجد اختلافا كبيرا فى إجابتهم يوضح شخصياتهم بوضوح.
وأكدت أن معظم الدلالات النفسية للألوان تكون مرتبطة بتجارب الطفولة، وإذا حدث للطفل موقف يربط لونا ما بالسعادة يرتبط معه هذا الشعور باقى عمره بينما ينسى عقلة الموقف الحقيقى، ولذلك يرى البعض اللون الأسود لون كئيب بينما يراه آخرون لون الوقار والأناقة، ويشعر البعض معه بالخوف وآخرون يشعرون معه بالهدوء والسكينة والاطمئنان والقدرة على التفكير الجيد.